لا شك أن العديد من أبناء جيلي قد تربوا ونشأت أفكارهم في ريعان تشكّلها على العديد من مسلسلات الكارتون والقصص المصورة، حيث العديد من الأحداث التي تمر على مجموعة من الشخصيات المتخيّلة في ذهن المؤلف، في عالم يتسم عادة بالمثالية وينصف في النهاية أولئك الذين يتصدون بضراوة لقوى الشر ومخاوف الإنسان، أولئك الذين لا يترددون في حماية مجتمع، أو إنصاف مظلوم، أو دحر ظالم.
فسواء كنت من محبي الأنمي الياباني ، أو مسرحيات شكسبير الكلاسيكية، أو حتى الأفلام والمسلسلات المعاصرة، فستجد على نحو مغاير أن هناك بعض الشخصيات المحورية التي يدور حولها العمل الفني ويقوم بنسج الأحداث المختلفة حولها ليحث بداخلنا المحاكاة الخيالية لحيواتهم ومشاكلهم، وبالتالي يأخذنا في مدارات تلك الأحداث حول بعض الاستنتاجات والدروس الأخلاقية، أو .حتى الخبرات الحياتية المتوارثة في أُطر هذه الثقافة أو تلك
القاسم المشترك بين تلك الأعمال الفنية المختلفة هو قواعد "الدراما" التي نستطيع تقفي أثرها تاريخياً وصولاً لإحتفالات وأعياد "ديونيسيا" في مدينة أثينا اليونانية القديمة، والتي تُعرف تاريخياً بكونها الميلاد الحضاري للدراما والتراجيديا وما سيعرفه المجتمع البشري بعد ذلك باسم "الفنون المسرحية" والتي ستتطور أكثر لاحقاً وتنتج لنا "السينما" الحديثة وأعمالها الفنية المختلفة. وإذا نظرنا إلى العناصر الأساسية في تكوين العمل الدرامي، سنجد أن هناك في العادة "بطل الرواية" وهو الشخصية المحورية التي تقود الرواية وتتطور حولها الأحداث.
أولئك "الأبطال" تخلد أمجادهم وسيماهم سطور تلك القصص والملاحم، ويحتفي بهم المجتمع وأفراده وتتوج بطولاتهم الأناشيد والهتافات. بل ويمتد تأثيرهم الاجتماعي خارج تلك السطور إلى نحو يثير الدهشة إلى وعي المجتمع الواقعي ذاته، حيث لا نكاد نجد ثقافة أو حضارة إلا ووجدنا حولها المُثل المختلفة حول تعريف مفهوم "البطل". سواء نظرنا إلى سيرة "أبي زيد الهلالي" في الثقافة الشعبية المصرية، أو شخصية "هرقل" في أعمال ديزني، أو إلى "بونوكيو" صاحب الأنف الطويل في الثقافة الإيطالية، أو إلى شخصية "إيرين ييجر" في أنمي هجوم العمالقة ذو الثقافة اليابانية، أو حتى إلى شخصية "جعفر العمدة" في الدراما المصرية المعاصرة، سنجد دوماً البطل التي تدور حوله أحداث القصة، وتتفاقم حوله المعضلات أو التحديّات الحياتية، لكنه في النهاية يجد بداخله ذلك الخيط الذي يسترشد منه صوابه، ويجمع شتات قواه، ويمضي في رحلته نحو إنجاز أو عمل بطولي من شأنه تأجيج مشاعرنا وخلق تلك العلاقة النفسية بين ما نراه في سمات ذلك البطل وبين ما يمكن أن تصبو إليه ذواتنا في يوم ما.
يمكن أن يختلف الأفراد حول قبول أو رفض شخصية البطل، بين مؤيد ومعارض، ساعِ أو نافر، ولكن لا يمكن أن تكون شخصية البطل وليدة الصدفة، أو محض شطاط فكري من المؤلف، فلابد أن تتشكل شخصية البطل من معالم المجتمع المُخاطب بالعمل الدرامي وحتماً ستحتاج حياته الشخصية أن تتشابه مع حيوات الجمهور حتى يستطيع العمل الدرامي إنفاذ محتواه الأخلاقي بشكل سليم.
ولكن، هل هنالك علاقة بين تشكّل مفهوم "البطل" وبين المجتمع البشري ذاته؟ لماذا من الضروري للمجتمع البشري أن يخلق مفهوم البطل هذا؟ بحيث نجد أن المجتمع البشري منذ فجر بزوغه حريص على خلق البطل ونسجه داخل ثقافته، هل يستفيد أفراد المجتمع من هذا المفهوم؟
وإن كانت هنالك علاقة، فما هي بواعث تلك العلاقة؟ وكيف نتأثر بها كأفراد وكيف نفهم هذا السلوك الاجتماعي نحو السعي دوماً لإنتاج البطل؟ هذا ما سأحاول التساؤل حوله في السطور القادمة.
لماذا احتاجت المجتمعات البشرية إلى أبطال في المقام الأول؟
لكي نستطيع فهم الضرورة التي اقتضت المجتمعات البشرية إلى تطوير مفهوم البطل، يجب أولاً أن نسترجع للذاكرة آليات المجتمعات البشرية الأولى، فهي وعلى الرغم من حداثتها، كانت النواة الأساسية للعديد من السلوكيات الاجتماعية التي اعتاد البشر نهجها منذ حين. فالمجتمعات الأولى للبشر، والتي كانت لبنة المجتمعات الحضارية فيما بعد، كانت تعتاد العيش في جماعات متنقلة باحثة عن الغذاء والمأوى والأمان الاجتماعي من المفترسات والصعوبات الحياتية. مما فرض على هيكل تلك المجتمعات أن يكون اعتماد الأفراد بعضهم على بعض في النجاة. ما تطلّب بدوره تعظيم قيم الشجاعة، القيادة، الإيثار، الحكمة، والدفاع عن الجماعة ضد تلك الصعوبات، والتي نعهدها دوماً في شيم الأبطال وسير النبلاء. تلك القيّم تم تمجيدها على مدار العصور والمجتمعات لما تنطوي عليه من منافع للجماعة البشرية من شأنها أن تزيد من بقاء المجموعة وحمايتها ضد الأخطار المختلفة. ولكن أن تضحي بنفسك من أجل قضية نبيلة، أو أن تتحمل عبء رد ظلم عن أفراد آخرين ليس بالمسئولية البسيطة، ولا يتأتى للإرادة أن تحث صاحبها للقيام بتلك الأفعال طواعية. فما الدافع الذي يجعل الفرد يقوم بتلك الأفعال "البطولية" ياترى؟
وفقاً للبروفيسور ديفيد ويلسون، أستاذ علم الأحياء التطورية والأنثربولوجيا، وضمن أعماله حول دراسة سلوك الإيثار في المجتمع البشري في كتابه "هل الإيثار موجود؟" يناقش ويسلون أن المجتمعات البشرية احتاجت إلى تطوير بعض الآليات لحث الأفراد على الأفعال الغيّرية، من بين تلك الآليات كانت السُمعة الحسنة والمكافآت الاجتماعية والاعتراف الاجتماعي بمكانة البطل، والتي من دورها أن تحث الأفراد على الإقبال على الأفعال البطولية -والتي نستطيع فهمها على أنها أفعال غيّرية-، لما بها من منافع اجتماعية آجلة. وبذلك نستطيع أن نُدرك أول الخيوط بين أهمية وجود مفهوم "البطل" وبين المجتمعات البشرية. فوجود الأبطال يعزز من انتشار الأفعال الغيّرية بين الأفراد، مما يحافظ بدوره على تماسك ووحدة المجتمع، وضمان فرص نجاته ضد التحديات الحياتية المختلفة.
استنتاج: من وجهة نظر تطورية بيولوجية، يمكن أن يكون مفهوم البطل في المجتمعات مرتبطًا بحاجة البشر إلى خصائص تعزز التكيّف والبقاء. يُعتبر احترام الناس لصفات البطولة، مثل الشجاعة والتضحية والقيادة، ميزة تطورية قد ساهمت في تحسين تعاون الأفراد وتقليل المخاطر وضمان رفاهية المجموعة. الأفراد الذين يظهرون تلك الصفات قد يحظون بدعم اجتماعي، مما يساهم في نجاح المجموعة بشكل عام. القصص حول الأبطال قد تكون وسيلة للتعلّم الاجتماعي، مما يسمح للمجتمعات بنقل صفات وسلوكيات مفيدة عبر الأجيال، وهو ما يعزز القدرة التكيّفية للمجتمعات البشرية أمام التحديات البيئية.
كيف اعتادت المجتمعات البشرية على نشر سمات البطولة؟
بعد أن تناولنا بشكل مقتضب الحاجة الاجتماعية لوجود نموذج البطل في المجتمع، يتبادر إلى ذهني سؤال آخر، وهو كيف يمكن للمجتمع البشري أن يدشن سمات البطل بين أفراده؟ كيف يمكن أن تنتقل تلك السمات بين الأفراد والأجيال المختلفة لمجتمع ما؟
للإجابة على ذلك السؤال، سيترتب علينا فهّم آليات انتقال المعرفة في المجتمع البشري، وهي تلك الوسائل أو الطرق التي يتناقل بها أفراد مجتمع ما المعرفة المكتسبة والمتوارثة بين بعضهم البعض. حالياً يمكننا أن ننظر إلى مجتمعاتنا المعاصرة ونجيب بسهولة عن ذلك السؤال: عن طريق العمليات التعليمية المختلفة والمدارس النظامية والتربية، ولكن هل كانت الحال كما هي عليه منذ سالف الأزل؟
في ذلك الصدد ربما من المفيد أن نتناول
وجهة نظر البروفيسور جوردان بيترسون حول التفرقة بين عصر الأساطير وعصر العلوم، وهو الخط الحضاري الفاصل ما بين عصور الأمم السابقة وعصور ما بعد التنوير، حيث أن أحد الفروق ما بين العصرين يكمن في آلية انتقال المعرفة ومصادرها.
في عصر الأساطير أو ما قبل عصر التنوير، كانت المجتمعات البشرية تحتاج إلى نماذج أخلاقية وسلوكية يسهل نقلها وتواترها بين عموم الأفراد، وهو ما يمكن أن يخدم الغاية التي سبق وتناولناها، أي تدشين سمات بطولية معينة بين الأفراد لتعظيم المنفعة العامة، وكانت تلك النماذج غالباً ما يتم سردها عن طريق القصص الأسطورية أو السيّر الحياتية لأبطال سابقين، والتي سهّلت تدشين سمات ودروس حياتية معينة عن طريق السرد والحكاية. وهو ما ساعد المجتمعات آنذاك على الاستدلال الأخلاقي ونشر سمات البطولة الخاصة بها بين أفرادها.
أما في عصر العلوم أو ما بعد عصر التنوير، فقد حلّت العلوم الطبيعية والإنسانية محل الأساطير والقصص، وقامت المجتمعات بالنظر عن كثب للعالم الواقعي لا على أنه مكتبة من القصص ولكن على أنه مختبر لتفاعل الإنسان مع المواد. وهو ما سينتج عنه تحوّل حضاري في نظرة المجتمعات البشرية.
لكن هناك بعض السمات المشتركة بين العصرين، وبعض الروابط التي استمرت في الاتصال برغم اختلاف النظرة الحضارية، وأحد تلك الروابط هو فن الدراما. وهو أحد أهم الوسائل في العالم القديم لنقل وتناول المعرفة والحكمة الحياتية، والذي يمكن أن نتقفى أثره في أدبيات اليونان القديمة، وتحديداً في مدينة أثينا حيث كانت تقام احتفالات "ديونيسيا" والتي كانت تقام على شرف الإله الإغريقي "ديونيسوس" والتي كانت تتسم بوجود الاحتفالات المسرحية التي كانت بدورها المحطات الأولى في تدشين السمات البطولية عن طريق الفنون المسرحية والتمثيلية.
ورغم أن البنيّة الحضارية قد اختلفت بين العصرين، ظلت الدراما أحد الامتدادات التي اعتاد البشر على تناولها، واستمرت في تغذية الاحتياج الأخلاقي لدى الأفراد وتشكيل توقعاتهم الفردية عن أنفسهم وعن نسختهم البطولية. ونستطيع أن نرى ذلك في الآثار الأدبية للمجتمعات المختلفة، حيث المسرح والغناء الشعبي والقصائد في فحواها لم تكن إلا كبسولات أخلاقية ودروس حياتية يسهل حفظها ونقلها، ويمكن انتشارها بسهولة.
استمرت الدراما في التطوّر والتعقّد كسائر الفنون بين العصرين، واستطاعت المجتمعات البشرية تطويع أشكال الدراما المختلفة لخدمة الهدف الرئيسي، وهو انتقال ونشر السمات البطولية والمساعي الأخلاقية التي يراها كل مجتمع بدوره مهمة ومفيدة لأفراده، حتى وصلتنا بكافة الأشكال الدرامية وأثرت في تكوين الكثير من التطلعات الفردية لمختلف أشكال المجتمعات. وبذلك نفهم الاهتمام الكبير بالدراما كسلاح حضاري تتوافد عليه الأمم الكبرى وتحاول توجيهه، شأنه في ذلك شأن الآلة الإعلامية.
Comments
Post a Comment