اعتاد نور رؤية تلك التناقضات يوماً بعد يوم، فقد أخذ ذهنه يتشرّب ويفسّر أحداث عالمه من خلال منظارين مختلفين لكل منهما معيار خاص في رؤية الأحداث. أحد المنظارين اعتاد تفسير الأحداث انطلاقاً من فرضية أن هناك خطة موضوعة بدقة وعناية لضبط الأحداث.
والآخر اعتاد تفسيرها على أنها نتيجة لبعضها البعض، فعندما يتعرض المرء لحادثة سير، لا يوجد خطة لذلك، تكون العوامل هي مسببات تلك النتيجة: كأن يكون المرء شارد الذهن بسبب خلاف شخصي، وأن يكون السائق مشغول بتفقد مؤشر الوقود، وأن تكون حرارة الجو قد تسببت في بطء حركة المكابح، فكل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى حادث السير، وليست الخطة الأوليّة.
لم يكن يعي نور ماهية المنظارين بعد، بل لم يكن يعي ما يعنيه أن يكون للمرء معيار في المقام الأول! لكنه بدأ يلحظ مشاهد حياتية تلفت انتباهه إلى الفرق بينهما. كان نور وأبناء جيله معتادين على رؤية أبطال مسلسلات الكارتون وهم يتهافتون إلى المجد والقتال بلا تردد، وكانت ألفاظ مثل: "بطل" و"أبطال" و"المجد" ألفاظ مترددة وشائعة في الخطاب التربوي لهذا الجيل. لا يعلم نور السبب، ولكنه يعلم أن هناك مغزى من ذلك. لماذا تتكرر تلك القيم بين الحين والآخر؟ هل هناك "رابط عجيب"؟
يحتفظ نور بتلك التساؤلات كغيرها من مثيلاتها إلى مسار التفكير الخامل، وهو نمط اعتاد نور ممارسته دون أن يدرك ذلك، وفيه يقوم بتأمل موضوع ما ويقوم بجمع المزيد عن ذلك الموضوع بينما يكون منغمساً في أحداثه اليومية. لكن في ذلك اليوم خطرت في ذهن نور فكرة جديدة، فبينما كان يتحدث مع صديق عن مفهوم "الشبحنة" وهو مصطلح دارج يصف أولئك الفتية التي نالت فيهم فطرتهم الحيوانية وطراً، وما يجب أن يصبح المرء عليه ليصبح "شبح"، فوصف له صديقه أحد الفتية وهو يقتتل مع ذويه بأنه "بطل"! فتوقف ذهن نور لوهلة، مهلاً؟! أليس للبطل صفات أخرى يجب أن يكون عليها؟ ألم يكن مفهوم البطل مرتبطاً بالمجد؟ أي مجد يحصده ذلك الفتى الهمجي حينما يفعل ذلك؟ هل يعقل أن يكون هناك تعريفات مختلفة للبطل؟ أم أن هناك تعريفات مختلفة لمفهوم المجد؟ ذاك الذي يحدد من هو البطل؟
بدأ نور في اكتشاف الفرق بين اللفظ ومدلول اللفظ، وبدأ يدرك أن عقله قام بربط مدلول الكلمة بما هو مغاير لما قام عقل صديقه بربط مدلول الكلمة به. فبدأ التساؤل التالي: اذا كان الواقع يرسم صور مختلفة عن مدلول الألفاظ، أي من تلك الصور أقرب للواقع؟ كيف يهتدي المرء لما هو صحيح؟ وهل الصحيح هو مايقرب إلى الواقع كما نراه؟ أم أن الصحيح هو مايقرب إلى مايجب أن يكون عليه الواقع؟
لا أعتقد أن عقل نور اتسع لكل تلك التساؤلات، لكنه بالتأكيد سيرسلهن إلى مسار التفكير الخامل مرة أخرى. بينما تمر أحداث حياته، يبدأ نور في اكتشاف "المنطق" وهو ما فهمه على أنه مجموعة القواعد العقلية التي يتبعها أصحاء العقل لتصل بهم من مقدمات ملحوظة إلى نتائج متوقعة تساعدهم على توقع الأحداث القادمة في حيواتهم. فهم نور المزيد عن المنطق لكنه لم يعي جوهره. كمن فهم أن في وقت معين من العام تمطر السماء، لكنه لم يفهم لماذا تمطر السماء؟
من أين أتينا بتلك القواعد؟ ولم تلك القواعد تحديداً؟ اعتقد نور أن الرابط العجيب هنا هو قدرتنا على تحويل تلك القواعد إلى أرقام ومعادلات رياضية محددة. بم أن كل شيء يمكن أن يكون كل شيء في الواقع، لابد من وجود قواعد بسيطة مختبئة وراء كل تلك الظواهر الكبيرة المعقدة. لكن هل فهم تلك القواعد وحصرها هو بالتالي المفتاح لذلك اللغز؟ كان نور كثيراً ما يجلس ويفكر في تلك المعضلة العقلية، لقد افتتن نور باللباقة الرياضاتية، وقدرة تلك الأرقام على أن تكون دوماً صحيحة ومحددة، لكن ذلك كان يثير في نفسه الخوف تارة والتساؤل اخرى! ان كان ذلك صحيحاً، لماذا لا يحكم علماء الرياضيات الأرض ومن عليها؟ أهناك من هم أكثر قدرة من أولئك على تمثيل الواقع في معادلات منضبطة ومُحددة؟ ذهب نور إلى الواقع مرة أخرى، ووجد العكس! فزادت شكوكه إزاء ذلك النهج. لابد من وجود حلقة مفقودة، لكنه لا يعلمها بعد.
اعتاد نور بعد ذلك أن يستخدم "المنطقية" كمعيار جامع، ماهو منطقي هو أكثر صحة بالضرورة. وبدأ يستخدم ذلك المعيار المكتسب جديداً في تحديد الخاطئ والصواب، السيء والجيد، النافع والضار. وغيرها من التضادات التي نستخدمها للتعامل مع الأحداث الواقعية وتحديد مواقعنا في الحياة. لكن ما لم يكن يعيه نور، أن هناك المزيد من الطوابق التي بُنيت بالفعل -في تفكيره- فوق ذلك الطابق والتي تجعل عقله يرى منطقية احدى الصورتين عن الأخرى. لكن هل يقودنا المنطق وحده نحو ماهو بالضرورة جيد أو نافع؟
لا أعتقد أن صديقنا نور قد استوعب ذاك السؤال حينها، فقد انشغل بتفاصيل الأحداث دون أن يرى إطار تلك الأحداث. كيف تعامل عقله مع الأحداث في المقام الأول، وأعطى لها معنى أو تفسير، ومن ثم انتقلت تلك المعاني إلى المعطيات التي يأخذها نور أساساً لمنطقه؟ هذا هو ما أعتقد أن يكون موضع التساؤل. كيف لعقولنا أن تفسّر المتغيرات التي نرصدها في الواقع وكيف تقوم بذلك بآلية خفية لا نلحظ حدوثها لشدة تأصلها داخلنا؟
عندما انتبه نور لاختلاف مدلولات الألفاظ -في حواره مع صديقه- لم يكن يعي أن عقله قد اصطدم بإطار تفسيري مختلف، يرى الواقع ويفسره على نحو مغاير. ثمة ما جعل كلا العقلين يسلكان طريقان مغايران، ماهو ذلك الأساس الذي تبني عليه عقولنا تفسيراتها؟ ماهو المنطلق لها؟
بالطبع لم يحصد نور الإجابة حينها، لكنه احتفظ بذلك التساؤل في جعبته طويلاً، إلى أن حدث ما لم يكن يتوقعه نور بعد ذلك، مرة أخرى بعد تلك السنوات، يتحدث مع صديقه القديم الذي قد جاب العديد من البلدان ورأى ما لم يره نور من اختلافات ثقافية بين شعوب تلك البلدان. أخبره صديقه بأن البطل في احدى تلك الدول هو ذلك الشخص الذي لا ينفك يثور ويجول من أجل حقوق الأقليات في مجتمعه، بينما البطل في هذه الدولة الأخرى هو الشخص الذي يستطيع أن يرتقي بنفسه وعائلته إلى مستوى اجتماعي معين. أما في تلك الدولة، فالبطل هو من يقدر على العمل لأكبر عدد ساعات ممكنة لأن هناك القليل من الوظائف والكثير من الناس. هناك العديد من الأبطال في هذا العالم، اقتنصت تلك الفكرة انتباه نور مجدداً، وأحيت من تفكيره الخامل ذلك التساؤل مجدداً! لكن في هذه المرة، كان نور يعي ويدرك أن للمجتمعات طبيعة مختلفة. ولكن ماهي تلك الطبيعة المختلفة؟ هل هي الظروف الحياتية؟ هل هي المستوى التعليمي؟ هل هي الظروف المناخية والجغرافية؟ أو ربما هي كل تلك العوامل؟ لا يهم عدد تلك العوامل الآن، ما يهم أن هناك عوامل مختلفة، تضفي طابع مختلف للمجتمعات. ولكن مهلاً! هل يؤثر هذا في تكويننا العقلي؟ أم هل نحن من نؤثر بتكويننا العقلي على تلك العوامل؟
هنا كانت اللحظة الحاسمة في مسار تفكير نور. فقد وصل لمفترق طرق من شأنه أن يقلب معاييره المنطقية رأساً على عقب! لقد ظن نور طيلة حياته أن الإنسان هو المصدر، هو المؤثر، هو الصانع وهو الفاعل. ربما بسبب ما تلقاه نور في صباه من تعاليم دينية، أو ربما بسبب انه إنسان في المقام الأول. توقف نور قليلاً عند ذلك التعريف، ما معنى أن أكون إنساناً؟ ما معنى أن أكون الفاعل؟
بعد عدة صولات وجولات فكرية، اهتدى نور إلى أن الإنسان الفاعل في تعريفه هو الإنسان الذي يظن -بوعيه- أنه محور الاهتمام، وغاية الكون، وهدف الطبيعة. لكن بالنظر بعيداً إلى الكون نفسه، وجد نور أن ذلك الوهم ليس إلا وهماً إنسانياً. فالإنسان يظن ذلك، لأنه لا يملك إلا أن يظن ذلك. مثله في ذلك كمثل العديد من الأوهام التي طورها لكي ينجو ويتعامل مع واقعه. لقد طوّر الإنسان الألوان كي يرى الصالح من الثمار ويتجنب الطالح منها، وطوّر اللغة لكي ينقل المعلومات لذويه، بل أنه طوّر الذاكرة ليميّز المتقاعسين في أفراد المجموعة حتى لا يهب مرة أخرى لمساعدتهم، إذن، لكل شيء وظيفة! حتى مفهوم الأصدقاء في حد ذاته، لقد كان له وظيفة في نجاة أفراد المجموعة الواحدة. فمن هم أصدقائي سيهبون لمساعدتي، على افتراض أنني سأقوم بمساعدتهم. ولكن مفهوم المساعدة وطريقته اختلف منذ ذلك الحين. لم يكن هذا ضرباً من الصدفة، لكنه لم يكن أيضاً جزءً من خطة. بل كان نتيجة التعلّم والخبرة الواقعية. فنحن -البشر- نتعامل مع الواقع ونفسّر الأحداث المختلفة ونحتفظ بها، ونقوم بعد ذلك بتمييز تلك الأحداث وضمها تحت غطاء يمكن التعامل معه بعد ذلك ويمكن تذكّره. تلك هي المفاهيم التي انتقلت من جيل إلى آخر بفضل الوسائل التي ابتكرها البشر من أجل ذلك.
لقد حصل نور على بداية الخيط، وهي الطبيعة. تلك المشكلات التي تحدث للنوع البشري ليست من نسج خيال البشر، بل هي أحداث لم يتم تصنيفها بعد. نمط طبيعي لم يحدث من قبل، ودليل على ذلك هو الموقف البشري من جائحة كوفيد المنصرمة. لم يخترع البشر تلك المشكلة أو حلولها دون أن تحدث لهم. لقد مروا بتجربة جديدة نوعياً، لم يكن لهم سابق عهد بها. مع ذلك، قام البشر بالتعامل مع الواقع، ومحاولة تصنيفه ومحاولة إيجاد حلول لتلك المشكلة. تلك إذن الميزة البشرية التي جعلتنا نظن أننا محور الاهتمام في هذا الكون، قدرتنا على التفاعل مع الواقع وتوقعه هي السلاح ذو الحدين. لكن اذا كانت الطبيعة هي نقطة الانطلاق، لماذا لا تكون كذلك في إدراكنا منذ اللحظة الأولى؟ لما أخذ نور كل ذلك الوقت كي يدرك أن هناك إطار تفسيري أساسه الطبيعة، وإطار تفسيري أساسه الإنسان؟
هنا تعلّم نور من خطأه السابق، لكل شيء وظيفة. لقد تعوّد البشر على الظن بمحوريتهم في تفسير الكون لأن ذلك ساعدهم في البقاء، ولكن كيف ساعدهم ذلك؟ هل يمكن أن تكون القيم الإنسانية أكثر إفادة من القيم الطبيعية؟
حسبما أظن، لقد احتاج البشر إلى طريقة يمكنهم من خلالها توسيع دائرة إدراكهم في توقّع الأحداث الحياتية. تخيّل أنك في حديقة خضراء، ولكن تلك الحديقة بها مجموعة مختلفة من الأزهار الملوّنة، وخطرت لك فكرة بأن تحصي أنواع تلك الزهور، كيف ستفعل ذلك؟ يمكنك البدء من المرور على الزهور منفردة، وإعطائها اسم مميز، لنقل الزهرة (أ) والزهرة (ب) والزهرة (ج) وبعد ذلك انتقلت إلى جزء آخر من الحديقة ووجدت أيضاً مجموعة أخرى من الزهور، لكن تلك المجموعة تتشابه في صفاتها مع الزهرة (أ)، ما الذي ستفكر فيه بعد ذلك؟ يمكن أن تفكر بعد ذلك في دمج الزهرة (أ) مع المجموعة الجديدة وتسميتهم باسم يصف أو يدل على ما رأيته عن تلك الزهور. هذا ما أعتقد أن البشر قد فعلوه حينما قرروا أن يعطوا تعريفات لأصناف من الأفعال على أنها أفعال "شجاعة" أو "بطولية" أو "خسيسة"، وظيفة تلك التصنيفات أن تجعلنا نتوقع القادم، وبالتالي تزيد فرصنا في النجاة. إذن لهذه القيّم وظيفة مهمة في المسار البشري التطوري، تساعدنا جميعاً على توقع القادم. لكنها تشترك جميعاً في أنها من نسج الإنسان. فهي اجتهادنا في تفسير الواقع وتوقعّه وليست الواقع ذاته أو حقيقته.
نخلص من ذلك إلى أن القيم الإنسانية مكملة بدورها للقيم الطبيعية (الأكثر أصالة) وأن المنظوران -الإنساني والطبيعي- يختلفان في تحديد نقطة انطلاقهما، لذلك، فرسم الحدود بين المنظارين يعتمد بالضرورة على قدرة الأفراد على استيعاب الواقع الطبيعي دون الحاجة لتأوليه إنسانياً. في حد ظني لا أعتقد أن هناك من يستطيع أن يدرك الواقع الطبيعي كما هو، نظراً لضرورة محدوديته بالحالة الإنسانية.
لذلك، في المرة القادمة، عندما تجد نفسك في حالة من السعادة الشديدة، أو الحزن الشديد، تذكّر: أي المنظارين تستخدم؟
تأملات عميقة وجادة. جميل يا صديقي.. أتمنى تستمر
ReplyDeleteشكراً لذوقك ولوقتك.
Delete