كانت سارة تجوب شوارع المدينة ليلًا، ممسكةً بهاتفها الذكي الذي يطلق كل ثانيتين صوت إشعار، منبهًا إياها إلى من ينتظر ردها على رسالته ومن أعجب بتعليقها على منشور الإنستجرام الأخير ومن وافق على طلب صداقتها، أضف إلى هذا عشرات، بل مئات الإعجابات التي تتلقاها بشكل يومي على صورها من صديقاتها الكثيرات، مع تعليقات تمتدح إطلالاتها الأنيقة وذوقها الرفيع.
انتبهت سارة للتو إلى أنها، وعلى الرغم من كل هذا الزخم المحيط بها، تتمشى وحدها في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لأنها لم تجد من يرافقها، فالصديقات دائمًا مشغولات، لا يستطعن فعل ما هو أكثر من ضغط زر إعجاب أو كتابة تعليق. شعرت سارة بالحزن لأن ملابسها التي حصدت 500 إعجابًا و350 تعليقًا على إنستاجرام، لم تحصد إعجابًا أو تعليقًا واحدًا في الحياة الواقعية.
كانت على وشك الجلوس في أحد المقاهي القريبة والرد على الرسائل المتراكمة منذ ساعة ونصف، حين شعرت فجأة بالانفصال عن كل شيء؛ حيث تذكّرت وقتًا كانت فيه الصداقات تتغذى على المحادثات الحقيقية الصادقة في البيوت والمقاهي، وحين كان صدى الضحكات يتردد في غرف المعيشة والشوارع، وحين كانت الرسائل تمثل شكلاً عزيزًا من أشكال التعبير عن النفس.
الآن صارت الشاشات وسيطًا بين الناس وبعضهم، واختفت الروابط البشرية الحقيقية لتحل محلها لمحات عابرة عن حياة الناس وبعض التفاعلات الرقمية التي تستغرق جزءًا من الثانية ولا تكلف أي شيء.
تساءلت سارة عما إذا كانت "سهولة الاتصال" بين الناس وبعضهم قد ساهمت في تباعدهم وشعورهم بالانعزال والوحدة.
عصر الإتصال الفائق
لقد أدى استخدام التكنولوجيا على نطاق واسع إلى ظهور ما يمكن وصفه بـ "الاتصال الفائق"، وهي حالة يرتبط فيها الأفراد باستمرار بأجهزتهم الرقمية، مما يؤدي إلى تدفق مستمر للمعلومات والاتصالات. وفي هذه الحالة، تحولت الهواتف الذكية إلى مرافقين رقميين يرافقوننا منذ لحظة استيقاظنا وحتى نومنا.
لا يتعلق الأمر فقط بالبقاء على اتصال (أونلاين)؛ بل يتعلق الأمر بالاتصال الفائق: تلقي الإشعارات والتحديثات والرسائل باستمرار، طوال اليوم كل يوم، غالبًا من منصات متعددة في وقت واحد. يجسد مفهوم الاتصال الفائق كيف أصبحت الخطوط بين العالمين الرقمي والمادي غير واضحة مع دمج التكنولوجيا بسلاسة في كل جانب من جوانب الحياة.
يوفر الاتصال الفائق في العصر الرقمي العديد من الفوائد، حيث سهّل الاتصالات عبر مسافات طويلة دون عناء من خلال منصات رقمية مختلفة، كما توسعت فرص العمل عن بعد، مما عزز توازنًا أفضل بين العمل والحياة، وأصبح الوصول إلى المعلومات فوريًا وواسع النطاق، مما يمكّن الأفراد من الحصول على المعرفة في أي وقت ومن أي مكان. لقد أدى تعزيز الاتصالات الاجتماعية وسهولة الخدمات عبر الإنترنت إلى إثراء الحياة اليومية، وأيضًا تضاعفت خيارات الترفيه، كما سهّل التعرض لوجهات نظر عالمية، مما أدى إلى توسيع الآفاق وتغذية الابتكار. ولكن، ومع التشديد على أهمية الاتصال الفائق في عالم اليوم، فمن الضروري دراسة الجوانب السلبية المحتملة لهذا الجانب المعقد من التكنولوجيا الاجتماعية.
فهم تناقضات الاتصال الفائق
بينما كانت سارة تتجول في سوق خان الخليلي، رن هاتفها بسلسلة من الإشعارات. أثير فضولها، فأخرجت هاتفها الذكي ووجدت شاشتها محملة بعشرات التحديثات من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ صور أصدقائها وهم يستمتعون بنزهة عفوية في حديقة قريبة، ولقطات من معرض فني كانت تتوق لحضوره، ورسائل في دردشة واتساب عن تجمع مسائي مرتجل في مقهاها المفضل.
شعرت سارة بالقلق عندما أدركت أنها فوتت كل هذه الأحداث الممتعة، وأحست بالندم قليلًا حين انفصلت عن عالمها الرقمي لبضع ساعات.
ما أصابها يُسمّى الخوف من تفويت الفرصة، أو الـ FOMO، انتابها إحساس مزعج بأن الحياة تمر بينما كانت منهمكة في مشاهدة الأشياء بالسوق.
لم تستطع المقاومة أكثر، فسارعت بإرسال رسائل إلى أصدقائها، محاولةً الانضمام إلى النزهة. إن حرصها على أن تكون جزءًا من كل تجربة، وعدم تفويت أي لحظة، دفعها إلى تقسيم انتباهها بين محيطها الواقعي واتصالاتها الافتراضية.
عندما سارعت لمتابعة الأحداث التي ظنت أنها فاتتها، أخذت تتساءل: هل كان تواصلها المستمر بمثابة جسر للسعادة أم حلقة لا نهاية لها من القلق الناجم عن الخوف من تفويت الفرصة؟
في عصر الاتصال المستمر، أصبح "الخوف من تفويت الفرص" (FOMO) ظاهرة سائدة. يشعر الأشخاص بأنهم مجبرون على البقاء على اتصال في جميع الأوقات للتأكد من أنهم لم يفوتوا أيًا من الأحداث الاجتماعية أو الأخبار أو العروض. هذا الشعور المستمر بالتواجد يمكن أن يؤدي إلى الإرهاق الاجتماعي، حيث يكافح الأفراد لتحقيق التوازن بين البقاء على اطلاع دائم والشعور بالإرهاق من الحجم الهائل للمعلومات والتفاعلات.
وهناك جوانب سلبية أخرى للاتصال المستمر؛ ففي حين أنه يوفر الراحة للبقاء على اتصال مع الأصدقاء والعائلة، إلا أنه يمكن أن يعيق أيضًا التفاعلات وجهًا لوجه، حيث بات العديد من الأفراد الآن يفضلون إرسال الرسائل النصية أو الاتصال بدلاً من الاجتماع وجهًا لوجه، مما يؤدي إلى انخفاض جودة المحادثات والعلاقات الاجتماعية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تؤدي سهولة الاتصال إلى تآكل الروابط الشخصية؟
من ناحية نفسية، فإن مسألة ما إذا كانت سهولة الاتصال الرقمي تقوض الاتصالات الشخصية أم لا تعتبر معقدة نوعًا ما. تهتم العديد من النظريات النفسية بهذه القضية، حيث تشير نظرية التبادل الاجتماعي إلى أن الأفراد قد يمنحون الأولوية للتفاعلات الرقمية إذا اعتبروها أكثر فائدة وأقل تكلفة، مما قد يقلل من عمق العلاقات الشخصية. وتؤكد نظرية التعلق على الحاجة الإنسانية الأساسية للروابط العاطفية، حيث غالبًا ما تفشل الاتصالات الرقمية في تلبية الاحتياجات العميقة للتعلق.
كما تشير نظرية التنافر المعرفي إلى أنه إذا كان الناس يقدرون الاتصالات الشخصية ولكنهم، مع ذلك، يعطون الأولوية للاتصالات الرقمية، فقد يقللون أيضًا من أهمية العلاقات في العالم الحقيقي، مما يعني انخفاض قيمتها.
وتشرح نظرية المقارنة الاجتماعية الضوء كيف أن التعرض المستمر للتفاعلات المثالية عبر الإنترنت يمكن أن يعزز مشاعر عدم الرضا، مما يؤثر على رغبة الأفراد في الانخراط بشكل أصيل في التفاعلات الشخصية (وجهًا لوجه).
التعافي من العالم الرقمي: ترميم العلاقات الاجتماعية في عالم فائق الاتصال
في أحد الأيام، لاحظت سارة شيئًا أزعجها أثناء جلوسها في المقهى القريب من بيتها، كان الأشخاص حولها منشغلين بشاشاتهم، وكان هناك زوجان شابان على الطاولة المجاورة يتصفحان قنوات التواصل الاجتماعي الخاصة بهما، ويبدو أنهما غير مدركين لوجود بعضهما البعض. كما كانت هناك مجموعة من الأصدقاء، الذين اجتمعوا لتناول عشاء -كان يُفترض به أن يكون ممتعًا-، لكن بدلاً من الانخراط في محادثة حية، كانوا ينظرون إلى هواتفهم طوال الوقت.
تساءلت سارة، هل سمحت، مثل هؤلاء الأشخاص، دون قصد لعالمها الرقمي بأن يطغى على عالمها الحقيقي؟ لقد كانت تطارد الاتصالات الرقمية، خوفًا من تفويت أحداث هامة على الإنترنت، ولكن بقيامها بذلك، هل فاتها أن تشعر بالعالم الحقيقي؟
أصبح إيجاد التوازن بين التكنولوجيا والاتصالات البشرية الحقيقية الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ بدءًا من مفهوم التخلص من السموم الرقمية، حيث القطع المتعمد لوسائل الاتصال الرقمية (الذي يؤدي إلى تقليل التوتر وتحسين الصحة العقلية)، وحتى وضع حدود لاستخدام التكنولوجيا أثناء التجمعات العائلية والمناسبات الهامة.
على حد تعبير الفيلسوف الشهير بليز باسكال:
كل مشاكل البشرية تبدأ من عدم قدرة الفرد على الاختلاء بنفسه في غرفة هادئة.
تعلمنا هذه الحكمة أنه لبدء رحلة التخلص من السموم الرقمية بشكل فعال، يجب على المرء أن يتعلم احتضان العزلة والسكون.
خطوات عملية تساعد على التخلص من السموم الرقمية:
1- تخصيص فترات زمنية محددة: قم بتخصيص فترات زمنية محددة خلال اليوم لتبتعد عن الأجهزة الرقمية. تشير الأبحاث إلى أن فترات الراحة المنظمة من التكنولوجيا، مثل بضع ساعات في المساء أو يوم كامل خالي من التكنولوجيا الرقمية في عطلة نهاية الأسبوع، يمكن أن تقلل من مستوى التوتر وتحسن الصحة النفسية.
2- مخيمات التخلص من السموم الرقمية: فكر في المشاركة في نشاطات اجتماعية تساعدك على التخلص من الارتباط الوثيق بالأجهزة الرقمية. توفر هذه التجارب بيئة منظمة بعيدًا عن عوامل التشتيت الرقمية، مما يشجع المشاركين على الانخراط في التفاعلات الإنسانية وجهًا لوجه والأنشطة الخارجية والاسترخاء. تشير الأبحاث إلى أن مثل هذه الأنشطة يمكن أن تؤدي إلى تحسينات دائمة في الصحة العقلية وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا.
في عصرنا الرقمي المتسارع، حيث تجذب الشاشات انتباهنا باستمرار، يمكن أن يساعدنا دمج اليقظة الذهنية في اتخاذ قرارات مدروسة حول متى وكيف نتعامل مع الأجهزة الرقمية. فيما يلي بعض النصائح للتأكد من أن التكنولوجيا تعمل على تحسين حياتك اليومية بدلاً من الانتقاص منها:
1- تحديد النوايا: قبل الإمساك بهاتفك، توقف لحظة واسأل نفسك عن سبب قيامك بذلك. هل تبحث عن معلومات، تسعى للترفيه، أو التواصل مع شخص ما؟ تحديد نوايا واضحة يمكن أن يساعدك على تجنب التشتت.
2- ممارسة الوعي الرقمي: ركز فقط على المهمة التي بين يديك وتجنب القيام بمهام متعددة في وقت واحد، لأن ذلك قد يؤدي إلى انخفاض الانتباه وزيادة الحمل المعرفي. امنح اهتمامك الكامل لنشاطٍ واحد في كل مرة.
3- إشعارات مدروسة: تحكّم في إشعارات جهازك. قم بتعطيل الإشعارات غير الضرورية لتقليل عوامل التشتيت، واستخدم خيارات "عدم الإزعاج" خلال أوقات محددة، مثل الوجبات أو وقت النوم.
4- الصمت الرقمي: خصص يومًا أو جزءًا من اليوم كل أسبوع باعتباره يوم صمت رقمي، وهو وقت الانفصال الكامل عن الشاشات. استغل هذه الفترة لممارسة أنشطة مثل القراءة أو قضاء وقت ممتع مع أحبائك.
5- تطبيقات اليقظة الذهنية: استفد من تطبيقات وأدوات اليقظة الذهنية لمساعدتك في بناء عاداتك الجديدة. تقدّم تطبيقات مثل: Headspace وCalm تدريبات تأمل وتقنيات موجهة لإدارة وقت استعمال الهاتف وتنمية الوعي الرقمي.
6- المشاركة في أنشطة لا تحتاج لاتصال انترنت: ابحث عن فرص للمشاركة في أنشطة لا تتطلب الاتصال بالانترنت. اعثر على هواية جديدة، أو اقضِ وقتًا في الطبيعة، أو شارك في الأنشطة الاجتماعية في مدينتك.
سيظل تأثير التكنولوجيا على حياتنا الاجتماعية موضوعًا يشغلنا جميعًا؛ ففي حين وضعت التكنولوجيا العالم في متناول أيدينا، إلا أنها أيضًا تتحدانا، كل يوم، لتحقيق توازن يحافظ على جوهر الروابط الإنسانية الحقيقية.
إن الأدوات الرقمية، مثل أي أدوات أخرى، تكون أكثر قيمة عندما نستخدمها بوعي وندرس آثارها علينا. ومن خلال وضع حدود وإعطاء الأولوية لجودة تفاعلاتنا الإنسانية، يمكننا استعادة ثراء علاقاتنا والتأكد من أن تظل التكنولوجيا خادمة لحياتنا، وليس العكس. دعونا نتذكر أن اتصالاتنا -سواء في العالم الرقمي أو العالم المادي- هي انعكاس لخياراتنا وأولوياتنا، وأنّ في وسعنا تحقيق تعايش متناغم بين التكنولوجيا والعلاقات الإنسانية الحقيقية المُشبعة.
Comments
Post a Comment